في ذكرى رجل من الخالدين: الشهيد حجت الإسلام مرتضى رادمهر....
استقبلني ابني محمد أمام الباب وقال لي: بابا، عمو مصطفى اتصل اليوم أكثر من مرة.
رفعت سماعة الهاتف و اتصلت بصاحبي مصطفى في جنوب كراتشي. سعد مصطفى بسماع صوتي، وقال بأسلوبه الدعائي الجميل: يا دكتور، معي ضيف عزيز، إذا تسمح أعرفكم عليه. ما الوقت الذي تراه مناسبا لزيارتكم؟
مصطفى رجل من دعاة أهل السنة في إيران، قضى عدة سنوات في الزنازين الإيرانية و عذب أشد التعذيب، فقد قلعوا في السجن إحدى عينيه، و كسروا ساقه اليمنى، و الآن مع أن عظام ساقه قد انجبرت إلا أنه ما زال يتعرج و لا يستطيع المشي سليما.
تعرفت عليه قبل بضعة سنوات لما هاجر إلى كراتشي. رجل تذكرك بالله رؤيته، نشاط و حب و أخلاق، و وجهه كالقمر يشع نورا و إيمانا و إخلاصا. مع أن أعوام السجن و التعذيب القاسي استطاعت أن تقلع عينه اليسرى إلا أنها لم تستطع أن تزيل الجمال، أو تطفئ نور الإيمان في وجهه. أمزح معه دائما و أقول له: ما أسعدك يا مصطفى! فقد ضمنت لنفسك الجنة، سبقتك عينك إلى الجنة، فيوم القيامة تقول لربك أنك ستدخل الجنة لتأخذ عينك، ثم لا ترجع! ادع لنا نحن المساكين!
يخرج زفيرا من أعماق صدره و يبتسم و يقول: آه.. آه.. يا دكتور، الجنة عروس مهرها غال. ادع لي بالثبات. أخاف أن تتبرأ عيني عني فأبقى وراء أبواب الجنة بلا عين!
شاب ظريف، لا تكاد تراه إلا و تحبه. لم تستطع أيام الهجرة القاسية في باكستان أن تقصم ظهره أو تضعف عزائمه. يقول لي: أنني في أشد أيام الهجرة أتذكر أيام السجن، فأشعر براحة و طمئنينة و أقول في نفسي؛ حقا كانت عبودية سيدنا يوسف (عليه السلام) في بيت عزيز مصر أفضل له من البقاء في البئر المظلمة مع الحيات و العفاريت!
كانت صلتي به أخوية، ولم يكن بيننا شيء من المجاملات. ولما قال لي من وراء الهاتف؛ ما الوقت المناسب لزيارتكم، أدركت بأن ضيفه رجل عزيز و غال عليه.
قلت له: تفضلوا، شرفوني بعد صلاة العصر.
لما عدت من المسجد بعد صلاة العصر وجدت مصطفى برفقة شاب نحيل يملأ الحياء سيماءه ينتظرني أمام البيت.
سلمت عليهما و عانقتهما و أخذتهما إلى غرفة الضيوف.
عرف مصطفى صديقه، فقال: أخي الدكتور مصطفى رادمهر. كان من أنشط علماء الشيعة في جامعات مدينة قم الإيرانية، بعثته الحكومة ليناظر "مولانا محمد عمر سربازي" في بعض القضايا العقدية و التاريخية، و يتجسس عليه. فكان من فضل الله عز وجل عليه أن شرح صدره للتوحيد، فأعتنق مذهب أهل السنة و الجماعة و ترك البدع والخرافات التي كان يؤمن بها.
ثم ابتسم و قال: أو بعبارته التي يصر عليها: نجاه الله من الشرك، و من عليه بالإيمان!
كان مرتضى ينظر إلى الأرض، و بعض العبرات تسيل على خديه و يقول بصوت خافت: الحمد لله. حمدا لك يا ربي على نعمة الإسلام والإيمان، و ما أعظمها من نعمة!
التفت إلى مرتضى و قلت له: أهلا و سهلا بكم، سعدت بلقائكم. ثم قلت له: لماذا يا أخي لا تقول: أصبحت سنيا، لماذا تصر أن تعرف نفسك مشركا من الله عليه بالإسلام.
رفع رأسه و أخرج زفيرا حارا كادت روحه تخرج معه، وقال: يا دكتور، لعل حضرتك لا تعرف المذهب الشيعي جيدا. أنا درست في الجامعات المذهبية، وهذا ما وصلت إليه بعد الدراسة و التحقيق و العلم.
كنت أشعر في قرارة نفسي أنه شاب مخلص و صادق. كانت عباراته تدخل إلى القلب مباشرة. ما كنت ترى في ملامح وجهه إلا الصدق و الإخلاص.
لكنني كنت كالملدوغ الذي يخاف من الحبال و يظنها حيات و عقارب! فقد سبق أن زعم كثير من شباب الشيعة أنهم أصبحوا من أهل السنة، فكانوا يدخلون بين الجماعات السنية و يتجسسون عليهم لصالح إيران. فلم أكترث كثيرا بكلام هذا الشاب، و تصنعت بعض الجفاء و قلت له بشيء من الصراحة المصطنعة: يا أخي، أنا لا يهمني من أنت، إن كنت من المخابرات الإيرانية فلك ذلك. و إن كنت رجلا صادقا مخلصا مؤمنا فهذا شأنك. فالحياة عندي أغلى و أعز من أن يضيعها الإنسان بالخيانة و الكذب و الدجل. فسرعان ما نموت و غدا سيتضح الخيط الأبيض من الخيط الأسود و تنكشف الحقائق، و سوف يفضح أمرنا إن كنا كاذبين.
لكنك إن تسمح لي فلي نصيحة أخوية لك: إن كنت صادقا فيما تقول، و أصبحت من أهل السنة و الجماعة، فاعلم بأننا نحن السنة لا نشكو من قلة العدد حتى تزيدنا أنت عددا. و لا ينقصنا العلم و العلماء لنلجأ إليك.
و إن كنت حقا تؤمن بأن قومك مشركون ضلال و قد انحرفوا عن الدين الصحيح، فهم أولى بك منا، و هم أحوج بك. فارجع إلى بلدك و حاول أن تخرج قومك من ضلال الكفر و الشرك إلى نور الإيمان. هذا هو واجبك!
رفع الشاب وجهه، و فجأة وقعت بريق عينيه في عيوني. فرأيت فيهما الصدق و الإيمان، فاستحييت من نفسي و شعرت بشيء من الإحراج، و خفت أن أكون قد ظلمت الرجل بكلامي..
لكنه قال بصوت هادئ وقور: نعم يا أخي، الحق معك.
استغرب مصطفى من استقبالي البارد لهذا القادم الجديد. فلم يكن يتوقع مني ذلك أبدا. أراد أن يلطف الجو قليلا. فنظر إلى صاحبه و أخذ يتصنع ضحكة، وقال له: يا أخي مرتضى إياك إياك أن تحمل من الدكتور شيئا في قلبك. هو الآن غضبان علي و يحاول أن ينتقم مني. فقد عرفته قبل فترة على شاب من المخابرات الإيرانية زعم أنه أصبح سنيا.. لهذا أنا لا ألوم الدكتور، ولكن لم أكن أعلم الغيب. و لعلني تسرعت في التعامل معه بشيء من السذاجة.. والآن يريد الدكتور أن يحاسبني على سذاجتي السابقة. ومعه الحق. لكن يا مرتضى هذا الرجل قلبه كالمحيط، لا يحمل كدرا، ولا تزعزعه الأمواج و الطوفان. و سترى ذلك بعد أيام. سنعود إليه و قد زالت عنه السحب و سكن غضبه علي، فتراه حديقة غناء كلها ورود و أزهار و ليس فيها أشواك!...
مع أذان المغرب استأذنوني للإنصراف. و عندما ودعتهم قدم لي الشاب هذا الكتاب الذي بين يديك أيها الأخ القارئ وقال لي: هذه بعض خواطري سجلتها لأخفف عن نفسي. أرجو أن تقرأها و تدعو لي بالثبات و التوفيق. فأنا لا أريد منكم إلا الدعاء. و أسأل الله العلي القدير أن يجمعنا جميعا في الفردوس الأعلى مع الأنبياء و الصديقين و الشهداء والصالحين إخوانا على سرر متقابلين.
تعانقنا طويلا. كانت دموع الشاب تسيل على خديه. قبلت وجهه وقلت له: إلى اللقاء إن شاء الله...
ولما عانقت صاحبي مصطفى همس في أذني: لم أكن أتوقع منك هذا. أين رأفتك و شفقتك و تأليفك للقلوب؟!
ثم رفع صوته و قال: يا دكتور، لا تظن أنك استطعت أن تخدعنا بكلامك هذا. يا بخيل، أردت أن تهرب من العشاء. لكن اطمئن لن أترك أخي مرتضى يسافر من كراتشي قبل أن نتعشى عندك.
سبحان الله!.. كنت قد نسيت تماما أن أعزمهم على العشاء. اعتذرت عنهم و قلت لهم: لو تكرمتم و شرفتموني و تعشيتم معي، والله سأسعد بكم كثيرا.
ضحك مصطفى عاليا وقال: لا فائدة للندم. لن نغفر لك بخلك هذا إلا أن تدعونا إلى أفخم مطعم في كراتشي. لكن لابد و أن تخبرنا قبل الموعد بأسبوع لنستعد جيدا. فنواصل الصوم حتى نستطيع أن نخسرك جيدا.
ابتسم مرتضى بكل أدب و احترام وقال بصوت رصين: لم يقتلني جلادوا الإمام المهدي، لكنك يا مصطفى تريد أن تقتلني جوعا.
وضع كل صديق كفه في كف صاحبه و ابتعدا عني...
لقطة الوداع و دموع مرتضى على خديه ظلت تعذبني فترة طويلة، فقد كنت أشعر بالذنب لتعاملي البارد معه. بعد صلاة العشاء قلت لزوجتي لا أشتهي العشاء، أرجو ألا تزعجوني. و دخلت غرفة المطالعة و أغلقت الباب على نفسي، و أخذت أقرأ في هذا الكتاب. فقد كنت أرى الصدق و الإخلاص وراء كل كلمة فيها، لم أستطع أن أغمض عيوني في تلك الليلة، و كنت أشعر بالذنب. كنت أشاهد صورة هذا الشاب وراء كل حرف من حروف كتابه و الدموع على خديه...
حاولت في صباح اليوم التالي أن أتصل بصاحبي مصطفى لأدعوه مع صاحبه للعشاء. لكنه لم يكن يرفع الهاتف، ولم يرد تلفني إلا بعد صلاة العصر. و أخبرني بأن صاحبه سافر إلى كويته.
أحيانا كنت اسأل مصطفى عن صاحبه. قال لي مرة أنه تزوج في كويته، و أخبرني بعد فترة بأنه رزق طفلا.... ذهبت الأيام و بدأت أنسى حكاية هذا الشاب...
مرت على هذه الحكاية بضعة أعوام، يوم أن سافرت إلى مدينة زاهدان في إيران. تمثل زاهدان بالنسبة لي مدينة الذكريات. فقد قضيت فترة طويلة من عمري في هذه المدينة. كلما أجد فرصة أحاول أن أزور هذه المدينة لأجد ذكرياتي فيها و ألتقي ببعض الأحبة و أصل بعض من فيها من أقاربي...
صليت صلاة العصر في مسجد الجامع، ثم ظللت جالسا في مكاني أذكر الله عز وجل و أقرأ أذكار المساء. شعرت بأن شابا نحيفا، مصفر الوجه و كأنه مريض يحملق في. تقدم قليلا و جلس بجواري. لم ألتفت إليه. رسم ابتسامة حلوة على شفاهه المصفرة النحيلة، وكان رأسه يتحرك من شدة الضعف دون إرادة منه. فقال في هدوء: أولا تعرفني يا دكتور؟
سلمت عليه، و صافحت يديه و كأنني أصافح قطعتين من الخشب البارد. قلت له: عفوا يا أخي، أ كان لي شرف التعرف عليكم سابقا؟!
ابتسم و قال مازحا: والله لم أكن أعرف أنني ازددت جمالا إلى درجة أن الناس لم يعودوا يميزونني. فلله الحمد!
كان يحاول أن يوقف رجفة يديه، لكنه لم يكن يستطيع ذلك. و لما شعر أنني لاحظت رجفة يديه استحيا و حاول أن يخفيهما، فجعلهما وراء ظهره.
سكت قليلا، ثم رفع رأسه و قال: خادمك؛ مرتضى رادمهر! وقد تشرفت بزيارتكم في بيتكم في كراتشي برفقة الأخ مصطفى...
لا أدري ماذا حدث. شعرت بدوخة شديدة في رأسي، و كأن الدنيا انقلبت رأسا على عقب، و في لحظة عادت شريط الذكريات تمور في وجداني، تلك الذكريات المريرة، ذلك الشعور بالذنب، تلك الآمال التي كانت تشدني للقاء هذا الشاب المؤمن. تعرق جسمي بشدة و شعرت بشيء من الرجفة في جسمي.. لا أدري كيف قمت و حضنته.. كيف كنت أقبل وجهه و رأسه كالمجانين.. لم أشعر بنفسي إلا و قد وجدت نفسي؛ أننا تعانقنا و نبكي بكاء الثكالى..
كان المصلون قد انصرفوا. و لم يكن في المسجد أحد. بعض الطلبة كانوا يرمقوننا من بعيد، و يستغربون من بكاءنا...
كانت الدموع تنهمر من عيني، و كنت أرتجف بشدة، قلت: مرتضى! يا رجل ماذا أصابك؟ بالله عليكم أنت مرتضى؟ لا.. لا .. لا والله، لا أستطيع أصدق. هذا ليس شكلك.. تغيرت يا رجل.. لماذا نحفت هكذا. لماذا اصفر لونك. هل أنت مريض؟ يا رجل ماذا فعلت بنفسك..
تمالك نفسه و ابتسم وقال: أعرف جيدا، كنت تظن في كراتشي بأنني جاسوس. و الآن تراني هنا في إيران! فلم يبق أمامك أي شك في اتهامي بالتجسس و العمالة...
لم يكن يقصد بكلامه هذا شيئا، و إنما كان كله صدقا و إخلاصا و بساطة. قلت له: أرجوك لا تؤنبني بكلامك هذا، قل لي؛ ماذا أصابك؟
هنا وصل إلينا صديقي الذي كنت ضيفا عنده، ولاحظ آثار الحزن العميق التي ترسمت على وجهي، فساقنا إلى حجرته في المدرسة الدينية بجوار المسجد.
كان مرتضى يحكي حكاياته، فكان يقول: لم أكن أشعر بالراحة في أرض الهجرة، كنت أقول في نفسي لابد و أن أنجي أسرتي و أصدقائي و جميع شعبي من الضلال، لابد و أن أخرجهم من الشرك و عبادة القبور و البدع، لابد و أن أفتح لهم نافذة نحو النور و التوحيد. و أخيرا قررت أن أخوض تجربة خطيرة و أعود إلى إيران للدعوة. لكن كانت المخابرات علي بالمرصاد، فبعد فترة وجيزة قبضوا علي، و أخذوني إلى سجن مدينة "كرمان".
و أخذ يحكي بعضا مما لاقاه من التعذيب و العذاب في السجون. و كنا نشعر بالخوف و القشعريرة، و يقف الشعر على رؤوسنا من وحشية هؤلاء الجلادين.
لم أكن أتصور يوما ما أن الإنسان قد يصل إلى هذه الدرجة من الذل و الوحشية. ولولا أنني رأيت مرتضى و سمعت هذه الذكريات المؤلمة من فمه و رأيت آثارها على جسمه، فوالله ما كنت أستطيع أن أصدقها أبدا. لم يكن يخطر ببالي قط أن يتجاوز الإنسان الوحوش الضارية و الذئاب الجائعة في افتراس أخيه الإنسان، و يعامله بهذه الوحشية بعيدا عن كل معاني الإنسانية و الأخلاق و الحياء. فأخذت أردد في نفسي أشعار الإمام الشافعي:
نعيب زماننا و العيب فينا
وما لزماننا عيب سوانا
و ليس الذئب يأكل لحم ذئب
و يأكل بعضنا بعضا عيانا
وكان صبر مرتضى رادمهر و ثباته تحت هذه الصور الوحشية من التعذيب التي يشيب من هولها الولدان لخير دليل على لذة الإيمان و على معجزة هذا الدين الذي يصنع من هذا الإنسان الضعيف جبلا شامخا لا يعرف الخنوع و الذل و الهوان. و على أن الله عز وجل ينزل الصبر على قدر عظم البلاء و المصائب.
ففي سجن "كرمان" لم يكن رادمهر هو الذي يصبر تحت آلات التعذيب المخيفة و اللذعات الكهربية وحرارة المكواة و شهوة الجلادين و وحشيتهم، و إنما كان الإيمان يناطح الكفر و الضلال و يقاوم شراسته. فلا يستطيع الفولاذ و الحديد و الوحوش الضارية أن تقصم ظهر الإيمان. وأن الإيمان هو وحده الذي ينتصر في معركة الكفر و الإيمان....
كنت رأيت أكثر من مرة بعض علماء أهل السنة و طلبة العلم و المثقفين و الكتاب في إيران يحملون إلى السجون، ثم يدخل في أجسامهم سم خطير يعذبهم فترة قبل أن يقتلهم، و كان آثار ذلك السم تظهر في؛ اصفرار لون الوجه و الجسم، ثم تأخذ الأيادي في الرجفة المستمرة، و يضعف الجسم شيئا فشيئا، و بعد فترة وجيزة يسقط الإنسان جثة هامدة لا روح فيها...
كانت الدموع تسيل على خدي مرتضى و هو يقرأ لنا بعض قصائده التي نظمها تحت التعذيب في زنازين الفراعنة الطغاة، و كان قد اجتمع في الحجرة عدد كبير من طلبة العلم، وكلهم كانوا آذانا صاغية له وعيونا باكية عليه.
قطعت كلامه و قلت له: أخي مرتضى، ألم يحقنوك في السجن شيئا مريبا.
ابتسم وقال في هدوء: رحمك الله.. والله أول ما كانوا يبدأون بالتعذيب كان يغمى علي، وكنت أشعر بسعادة و حلاوة ولذة عجيبة من تعذيبهم إياي. فوالله كنت أشعر بلذة الإيمان و أتلذذ من عذابهم وكأنني في الجنة، ولما كانت المكواة تحرق جسمي كنت أشم رائحة الجنة. و أتمنى أن يستمروا. و كنت أشعر باعتزاز شديد بعقيدتي و إيماني. و لم يكن يؤذيني إلا شيء واحد، فقد كنت أرى بأنني سأدخل الجنة قريبا، لكن يظل قومي يتخبطون في الضلال و الشرك. و لم يكن بإمكاني أن أخرجهم من الضلال. كنت أتمنى أن تتاح لي فرصة أتمكن من دعوة قومي و هدايتهم.
حضنت مرتضى و قبلت رأسه و وجهه الشاحب المضطرب، وقلت له: والله إنك مثل ذلك الرجل الذي حكى الله عز وجل حكايته في القرآن الكريم:"... إِنِّي آمَنْتُ بِرَبِّكُمْ فَاسْمَعُونِي * قِيلَ ادْخُلْ الْجَنَّةَ قَالَ يَالَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ * بِمَا غَفَرَ لِي رَبِّي وَجَعَلَنِي مِنْ الْمُكْرَمِينَ" (يس25-27).
و قلت له: لا تحزن أخي، فإن الله سيمن عليك بنعمة الشهادة، و إن دعوتك ستصل إلى جميع المبتدعة و المشركين و الخرافيين من قومك. و إن الهداية بيد الله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم. و أن الذي يسعى للوصول إلى الحق والسعادة و الهداية لن تحجب عنه الهداية.
ثم رجوته أن يخصني بدعوات صالحات، فقد كنت أشعر من أعماق نفسي أن الرجل يعيش في أجواء روحانية عالية و أنه شهيد عند الله يقضي ساعاته الأخيرة ليكمل ما بقي من رزقه، و أن الله لم يقبض روحه ليكون عظة و دعوة لمن يلتقي به.
ثم لما ودعته، قلت للشباب الذين تجمعوا هناك: أدعو الله عز وجل لأخيكم الشهيد مرتضى رادمهر رحمه الله..
تعجب القوم من كلامي و قالوا: ماذا تعني يا دكتور؟!
نزلت الدموع على خدي، و أخذ الحزن العميق يضغط حلقي و كاد يخنقني، فقلت في هدوء: إنا لله و إنا إليه راجعون، لله ما أعطى ولله ما أخذ، و إن العين لتدمع و إن القلب ليحزن ولا نقول إلا ما يرضي الله. إخوتي، فقد قتلوا أخاكم مرتضى، فقد أدخلوا سما خطيرا في دمه، فهو لن يبقى في هذه الدنيا إلا أياما معدودة، سيطير إلى ربه ليكون شاهدا على وحشية البشر!... رحمك الله يا مرتضى...
انفجر الجميع بكاء. وساد الجو حزن شديد، وبقي الجميع واقفين في أماكنهم كالأعمدة الخشبية، ولم نحس بأنفسنا إلا بعد أن ارتفع صوت أذان المغرب في المسجد عاليا.
رجع مرتضى إلى أهله في كويته. و مرة أخرى عادت السعادة و الهناء والفرح إلى هذه الأسرة التي عاشت الويلات والفقر في غياب الأب المجاهد. لكن لم تستمر هذه السعادة طويلا، فبعد بضعة أيام فقط شعرت البنت الصغيرة أن وجه أبيها أصبح أشد تلألؤا و نورا، و أن بسمته صارت أكثر بهاء و جمالا، وأن عيونه تنظر سعيدة إلى الأعلى، لكنها جامدة لا تتحرك. أخذت الصغيرة تقبل أباها و تناديها و لكن لا تسمع جوابا. فأخذت تبكي و تصرخ عاليا.. و عندها أدرك الناس بأن الشهيد لبى دعوة ربه و اختار الرفيق الأعلى، و ترك لهم جثة هامدة تذكارا لأيام المحنة القاسية...
شرب مرتضى رادمهر كأس الشهادة التي قدم له في سجون "كرمان" بعد أن عاد إلى حضن أسرته في كويته، وبعد أن ودع ابنته الوحيدة، ليذهب إلى ربه، ويقدم شكاواه المؤلمة إلى الحكم العدل و ليكون شاهدا على هؤلاء الفراعنة الذين استعبدوا الناس بعد أن ولدتهم أمهاتهم أحرارا، و أخذوا يصدون الناس عن سبيل الله و يرمون كل من آمن بالله ربا و بالإسلام دينا و بمحمد ( صلى الله عليه وسلم) نبيا و رسولا و كفر بأهوائهم و بدعاتهم و شركياتهم في زنازين الظلم و الطغيان..
ذهب رادمهر ... لكن بقيت دعوته..
ذهب مرتضى، لكن ظلت روحه تنتقل بين الشباب في إيران و توقظهم من سباتهم و نومهم العميق..
زرع رادمهر شجر الهداية و السعادة و النهضة في إيران، و أذن بأعلى صوته أذان التوحيد في أرجاء الوطن وصك به آذان الشرك و الضلال...
و ترى اليوم في كل بقعة من بقاع الوطن شبابا مؤمنين عاهدوا الشهيد رادمهر على الثبات في طريق الهداية و السعادة..
وغدا بإذن الله سترفع سماء إيران أذان التوحيد في كل أرجاء الوطن و ستسعد روح مرتضى في العليين...
سنحيي ذكرياتك يا شهيدنا.. و سنظل صامدين على طريقك... و ستبقى دعوتك خالدة إلى يوم الدين...
فاسعد و نم قرير العين يا شهيد التوحيد و السعادة...
يا مرتضى رادمهر الذي كتب لنفسه الخلود و الحياة..
" وَلَا تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتٌ بَلْ أَحْيَاءٌ وَلَكِنْ لَا تَشْعُرُونَ " (البقرة154).